الأحد، 13 نوفمبر 2016

رفاه زاير ......البحث عن البقاء

البحث عن البقاء
بقلم : رفاه زايرجونه
بغداد: العراق
تودّع الشمس تلك القرية الهاجعة في اهوار ميسان، وتمضي صعوداً، تسحب خيوطها البرتقالية ببطء حتى تغيب عن الاكواخ المتباعدة المطرّزة بالخضرة، ليبدأ نهار جديد لمخلوقات أخرى في رحلة البحث عن البقاء. هور مترامي الأطراف، تحيط به المياه من ثلاث جهات، وترسم النباتات البريّة من القصب والبردي التي تنمو وحدها في مسالكه لوحات باذخة، تتّصل بالسهل المزيّن بقطع كأنها مفارش مزركشة، تتخللها جداول ضيّقة من الإسمنت مرصوفة بدقّة كعبّارات وبوابات ومقاطع تنقل الماء إلى السهل من النهر البعيد. يدسّ "أبو علي" قضيباً رفيعاً من الحديد في كومة الجمر، فتتصلّب عضلات وجهه وهي تحمل في غضونها معاناة سنين عمره الغابر.. يتابع من خلف كوخه المطل على الهور جوع كلب لونه مائل للصفرة يبحث مُنهكاً عن كسرة شيء يقيم أوده.. كان لمّا يبلغ العشر سنوات من عمره بعد،عندما انتشلوا من أعماق الهور جثّة أبيه، ليحمل بعدها مسؤولية تربية أخوته ورعاية أمّه، المقعدة. ومنذ ذلك الوقت بدأت الرطوبة تنخر عظام ساقيه. لا يعرف أحد منذ متى امتلأ الهور الفسيح بالماء، حتى تشكّل مستنقع كبير فرض على ساكني المنطقة في القرى المتناثرة على شاطئيه نمطاً خاصّا للحياة، ووسيلة بدائية لكسب لقمة العيش مقتصرة على صيد الطيور المهاجرة التي تجد في مسار رحلاتها معين الماء هذا، ومن صيد الأسماك التي تكاثرت سريعاً في مياه الهور، وزراعات بدائية وضيقة ومحدودة حول بيوتهم الفقيرة بما يعتبرونه عصب حياتهم. قطع مربّعة ومستطيلة ودائرية كأنها فصّلت تفصيلا، تمتدّ متلاصقة بتناغم ساحر، منسابةً بجمال عذري لتصل باللوحة الساحرة الممتدّة صاعدةً على أعتاب الهور الطويل الموشوم بخضرة داكنة لشجيرات القصب والبردي البري المتشابكة حتى القمة.. لتشكّل بمجموعها لوحة نادرة وفريدة صنعها الخالق فبزّت أجمل ما يصنعه البشر. لم يصدّق "أبو علي" أن بين أصوات الحيوانات المختلطة التي تصدح عندما يسقط الظلام على تلك القرية عواء ذئب.. يضرب على ساقيه المطعونين بآلام مرض المفاصل المزمن الذي أقعده عن الحركة، ويسخر من أخيه كلما أتى على ذكر الذئاب.. كيف يتماهى الضدّ وضدّه في بيئة واحدة.؟ بين جمال أخاذ يسحر اللبّ، إلى جانب فقر يكاد يخنق الروح يعيشه سكّان المنطقة..أسراب "العصافير" الآتية من فضاءات بعيدة كأنها سحابة سوداء، تسقط مذعورة تبحث عن أي فجوة أمان عندما تعتلي الطيور الجارحة سقف السماء، تفتّش عن صيد وسط موجة الخير المقبلة في مواسم الهجرة. رياح عاصفة أيضاً تحمل الضدّ وضدّه، وهي تقتلع كل شيء تفيض كرماً وتبعد إلى حين أسراب القارص والناموس والحشرات الطائرة التي ما أن تسكن الرياح قليلاً حتى تمارس سطوتها على جلود ولحوم الناس، ولا تُحتمل. "طيور الخضيري" البريّ بلونها الزاهي الجميل، ورائحتها العطرية النفّاذة تنثر في فضاء الهور الفسيح عطرها، وتمتدّ على مربّع شاسع يكتسح أرض "أبو علي" ويهدد أرضه. تنكشف السماء ثانية، تحلّق مجموعات قليلة من طيور أخرى بسيقانها الدقيقة الطويلة، وأجنحتها الكبيرة باحثةً بعيونها الثاقبة عن أفعى أو فأرة أو أي شيء يتحرك على الأرض لتنقض عليه كصاعقة تحمله وتصعد به عالياً ثم تسقطه وتعود إليه لتلتهمه. لم تتفتّق بعد، عندما دهمها رعب "أسراب العصافير" فعاثت بها دون أن تدرك قسوة ما تفعل فساداً وإفساداً. "أبو علي" يراقب بعينين مجهدتين حيرةً ودهشةً تلك المجزرة، ويرسم في رأسه صورة ذئب ينبش الأرض ويتلف بذور الحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق